فصل: تفسير الآية رقم (34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (34):

{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)}
{واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ} أي اذكرن للناس بطريق العظمة والتذكير، وقيل: أي تذكرن ولا تنسين ما يتلى في بيوتكن {مِنْ ءايات الله} أي القرآن {والحكمة} هي السنة على ما أخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة وفسرت بنصائحه صلى الله عليه وسلم، وعن عطاء عن ابن عباس أنه كان في المصحف بدل {الحكمة} السنة حكاه محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في أوائل تفسيره مفاتيح الأسرار، وقال جمع: المراد بالآيات والحكمة القرآن وهو أوفق بقوله سبحانه: {يلتى} أي اذكرن ما يتلى من الكتاب الجامع بين كونه آيات الله تعالى البينة الدالة على صدق النبوة بأوجه شتى وكونه حكمة منطوية على فنون العلوم والشرائع، وهذا تذكير بما أنعم عليهن حيث جعلهن أهل بيت النبوة ومهبط الوحي وما شاهدن من برحاء الوحي مما يوجب قوة الإيمان والحرص على الطاعة وفيه حث على الانتهاء والائتمار فيما كلفنه، وقيل: هذا هذا أمر بتكميل الغير بعد الأمر بما فيه كما لهن ويعلم منه وجه توسيط {إِنَّمَا يُرِيدُ} [الأحزاب: 33] إلخ في البين والتعرض للتلاوة في البيوت دون النزول فيها مع أنها الأنسب لكونها مهبط الوحي لعمومها لجميع الآيات ووقوعها في كل البيوت وتكررها الموجب لتمكنهن من الذكر والتذكير بخلاف النزول، وقيل: إن ذلك لرعاية الحكمة بناء على أن المراد بها السنة فإنها لم تنزل نزول القرآن وتعقب بأنها لم تتل أيضًا تلاوته، وعدم تعيين التالي لتعم جبريل وتلاوة النبي عليهما الصلاة والسلام وتلاوتهن وتلاوة غيرهن تعليمًا وتعلمًا.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {تتلى} بتاء التأنثيث {إِنَّ الله كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} يعلم ويدبر ما يصلح في الدين ولذلك فعل ما فعل من الأمر والنهي أو يعلم من يصلح للنبوة ومن يستأهل أن يكون من أهل بيته، وقيل: يعلم الحكمة حيث أنزل كتابه جامعًا بين الوصفين، وجوز بعضهم أن يكون اللطيف ناظرًا للآيات لدقة أعجازها والخبير للحكمة لمناسبتها للخبرة.

.تفسير الآية رقم (35):

{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)}
{إِنَّ المسلمين والمسلمات} أي الداخلين في السلم المنقادين لحكم الله تعالى أو المفوضين أمرهم لله عز وجل من الذكور والإناث {والمؤمنين والمؤمنات} المصدقين بما يجب أن يصدق به من الفريقين.
{والقانتين والقانتات} المداومين على الطاعات القائمين بها {والصادقين والصادقات} في أقوالهم التي يجب الصدق فيها، وقيل في القول والعمل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أنه قال أي في إيمانهم {والصابرين} على المكاره وعلى العبادات وعن المعاصي {والصابرات والخاشعين والخاشعات} المتواضعين لله تعالى بقلوبهم وجوارحهم.
وقيل: الذين لا يعرفون من عن أيمانهم وشمائلهم إذا كانوا في الصلاة {والمتصدقين والمتصدقات} بما يحسن التصدق به من فرض وغيره {والصائمين والصائمات} الصوم المشروع فرضًا كان أو نفلًا، وعن عكرمة الاقتصار على صوم رمضان، وقيل: من تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو من المتصدقين ومن صام البيض من كل شهر فهو من الصائمين {والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات} عما لا يرضى به الله تعالى.
{والذكرين الله كَثِيرًا والذكرات} بالألسنة والقلوب ومدار الكثرة العرف عند جمع، وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور. وعبد بن حميد. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. عن مجاهد قال: لا يكتب الرجل من الذاكرين الله كثيرًا حتى يذكر الله تعالى قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا.
وأخرج أبو داود. والنسائي. وابن ماجه. وغيرهم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل فصليا ركعتين كانا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات»، وقيل: المراد بذكر الله تعالى ذكر آلائه سبحانه ونعمه وروي ذلك عن عكرمة ومآل هذا إلى الشكر وهو خلاف الظاهر.
{أَعَدَّ الله لَهُمْ} بسبب كسبهم ما ذكر من الصفات {مَغْفِرَةٍ} لما اقترفوا من الصغائر لأنهن مكفرات بالأعمال الصالحة كما ورد {وَأَجْرًا عَظِيمًا} على ما عملوا من الطاعات؛ والآية وعد للأزواج المطهرات وغيرهن ممن اتصفت بهذه الصفات، أخرج أحمد. والنسائي. وغيرهما عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟ فلم يرعني منه صلى الله عليه وسلم ذات يوم إلا نداءه على المنبر وهو يقول: {إِنَّ المسلمين والمسلمات} إلى آخر الآية، وضمير ما لنا للنساء على العموم ففي رواية أخرى رواها النسائي. وجماعة عنها أيضًا أنها قالت: قلت للنبي عليه الصلاة والسلام ما لي أسمع الرجال يذكرون في القرآن والنساء لا يذكرون؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ المسلمين والمسلمات} الآية.
وفي بعض الآثار ما يدل على أن القائل غيرها، أخرج الترمذي وحسنه.
والطبراني. وعبد بن حميد. وآخرون عن أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما أرى كل شيء إلا للرجال وما أرى النساء يذكرن بشيء فنزلت هذه الآية {إِنَّ المسلمين} إلخ.
وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: دخل نساء على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقلن: قد ذكركن الله تعالى في القرآن وما يذكرنا بشيء أما فينا ما يذكر فأنزل الله تعالى: {إِنَّ المسلمين} الآية، وفي رواية أخرى عنه أنه قال: لما ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال النساء: لو كان فينا خير لذكرنا فأنزل الله تعالى الآية.
ولا مانع أن يكون كل ذلك، وعطف الإناث على الذكور كالمسلمات على المسلمين والمؤمنات على المؤمنين ضروري لأن تغاير الذوات المشتركة في الحكم يستلزم العطف ما لم يقصد السرد على طريق التعديد، وعطف الزوجين أعني مجموع كل مذكر ومؤنث كعطف مجموع المؤمنين والمؤمنات على مجموع المسلمين والمسلمات غير لازم وإنما ارتكب هاهنا للدلالة على أن مدار اعداد ما أعد لهم جمعهم بين هذه النعوت الجميلة.
وذكر الفروج متعلقًا للحفظ لكونها مركب الشهوة الغالبة، وذكر الاسم الجليل متعلقًا للذكر لأنه الاسم الأعظم المشعر بجميع الصفات الجليلة، وحذف متعلق كل من الحافظات والذاكرات لدلالة ما تقدم عليه، وجعل الذكر آخر الصفات لعمومه وشرفه {وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] وتذكير الضمير في {أَعَدَّ الله لَهُمْ} لتغليب الذكور على الإناث وإلا فالظاهر لهم ولهن، ولله تعالى در التنزيل أشار في أول الآية وآخرها إلى أفضلية الذكور على الإناث.

.تفسير الآية رقم (36):

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)}
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ} أي ما صح وما استقام لرجل ولا امرأة من المؤمنين.
{إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا} أي قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الله تعالى لتعظيم أمره بالإشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام نزلة من الله تعالى بحيث تعد أوامره أوامر الله عز وجل أو للإشعار بأن ما يفعله صلى الله عليه وسلم إنما يفعله بأمره لأنه لا ينطق عن الهوى فالنظم إما من قبيل {فَإِنَّ الله خُمسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] أو من قبيل {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] {أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخَيرَةُ منْ أَمْرهمْ} أي أن يختاروا من أمرهم ما شاؤوا بل يجب عليهم أن يجعلوا رأيهم تبعًا لرأيه عليه الصلاة والسلام واختيارهم تلوًا لاختياره.
والخيرة مصدر من تخير كالطيرة مصدر من تطير، ولم يجئ على ما قيل مصدر بهذه الزنة غيرهما، وقيل: هي صفة مشبهة وفسرت بالمتخير، و{مِنْ أَمْرِهِمْ} متعلق بها أو حذوف وقع حالًا منها، وجمع الضمير في {لَهُمْ} رعاية للمعنى لوقوع مؤمن ومؤمنة في سياق النفي والنكرة الواقعة في سياقه تعم، وكان من حقه على ما في الكشاف توحيده كما تقول: ما جاءني من امرأة ولا رجل إلا كان من شأنه كذا: وتعقبه أبو حيان بأن هذا عطف بالواو والتوحيد في العطف بأو نحو من جاءك من شريف أو وضيع أكرمه فلا يجوز إفراد الضمير في ذاك إلا بتأويل الحذف. وجمعه في {أَمَرَهُمْ} مع أنه للرسول صلى الله عليه وسلم أوله ولله عز وجل للتعظيم على ما قيل.
وقال بعض الأجلة: لم يظهر عندي امتناع أن يكون عائدًا على ما عاد عليه الأول على أن يكون المعنى ناشئة من أمرهم أي دواعيهم السائقة إلى اختيار خلاف ما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو يكون المعنى الاختيار في شيء من أمرهم أي أمورهم التي يعنونها. ويرجح عوده على ما ذكر بعدم التفكيك ورد بأن ذاك قليل الجدوى ضرورة أن الخيرة ناشئة من دواعيهم أو واقعة في أمورهم وهو بين مستغن عن البيان بخلاف ما إذا كان المعنى بدل أمره الذي قضاه عليه الصلاة والسلام أو متجاوزين عن أمره لتأكيده وتقريره للنفي وهذا هو المانع من عوده إلى ما عاد عليه الأول، والحق أنه لا مانع من ذلك على أن يكون المعنى ما كان للمؤمنين أن يكون لهم اختيار في شيء من أمورهم إذا قضى الله ورسوله لهم أمرًا، ولا نسلم أن ما عد مانعًا مانع فتدبر.
ولعل الفائدة في العدول عن الظاهر في الضمير الأول على ما قال الطيبي الإيذان بأنه كما لا يصح لكل فرد فرد من المؤمنين أن يكون لهم الخيرة كذلك لا يصح أن يجتمعوا ويتفقوا على كلمة واحدة لأن تأثير الجماعة واتفاقهم أقوى من تأثير الواحد، ويستفاد منه فائدة الجمع في الضمير الثاني على تقدير عوده على ما عاد عليه الأول وكذا وجه إفراد الأمر إذا أمعن النظر وقرأ الحرميان والعربيان وأبو عمرو.
وأبو جعفر. وشيبة. والأعرج. وعيسى. تكون بتاء التأنيث والوجه ظاهر ووجه القراءة بالياء وهي قراءة الكوفيين. والحسن والأعمش. والسلمى أن المرفوع بالفعل مفصول مع كون تأنيثه غير حقيقي، وقرى كما ذكر عيسى بن سليمان {الخيرة} بسكون الياء {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} في أمر من الأمور ويعمل فيه برأيه {فَقَدْ ضَلَّ} طريق الحق {ضلالا مُّبِينًا} أي بين الانحراف عن سنن الصواب، والظاهر أن هذا في الأمور المقضية على ما يشعر به السوق، والآية على ما روي عن ابن عباس. وقتادة. ومجاهد. وغيرهم نزلت في زينب بنت جحش من عمته صلى الله عليه وسلم أمية بنت عبد المطلب. وأخيها عبد الله خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمولاه زيد بن حارثة وقال: إني أريد أزوجك زيد بن حارثة فإني قد رضيته لك فأبت وقالت: يا رسول الله لكنى لا أرضاع لنفسي وأنا أيم قومي وبنت عمتك فلم أكن لأفعل.
وفي رواية أنها قالت: أنا خير منه حسبا ووافقها أخوها عبد الله على ذلك فلما نزلت الآية رضيا وسلما فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا بعد أن جعلت أمرها بيده وساق إليها عشرة دنانير وستين درهمًا مهرًا وخمارًا وملحفة ودرعًا وإزارًا وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت أول امرأة هاجرت من النساء فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فزوجها زيد بن حارثة فحطت هي وأخوها وقالت إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجنا عبده.

.تفسير الآية رقم (37):

{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)}
{وَإِذْ تَقُولُ} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي اذكر وقت قولك {لِلَّذِى أَنعَمَ الله عَلَيْهِ} بتوفيقه للإسلام وتوفيقك لحسن تربيته وعتقه ومراعاته وتخصيصه بالنبي ومزيد القرب {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بالعمل بما وفقك الله تعالى له من فنون الإحسان التي من جملتها تحريره وهو زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه، وإيراده بالعنوان المذكور كما قال شيخ الإسلام: لبيان منافاة حاله لما صدر عنه عليه الصلاة والسلام من إظهار خلاف ما في ضميره الشريف إذ هو إنما يقع عند الاستحياء والاحتشام وكلاهما مما لا يتصور في حق زيد رضي الله تعالى عنه، وجوز أن يكون بيانًا لحكمة اخفاء صلى الله عليه وسلم ما أخفاه لأن مثل ذلك مع مثله مما يطعن به الناس كما قيل:
وأظلم خلق الله من بات حاسدا ** لمن كان في نعمائه يتقلب

{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} أي زينب بنت جحش وذلك أنها كانت ذا حدة ولا زالت تفخر على زيد بشرفها ويسمع منها ما يكره فجاء رضي الله تعالى عنه يومًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن زينب قد اشتد على لسانها وأنا أريد أن أطلقها فقال له عليه الصلاة والسلام: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} {واتق الله} في أمرها ولا تطلقها ضرارًا وتعللا بتكبرها واستداد لسانها عليك، وتعدية {أَمْسِكْ} بعلى لتضمينه معنى الحبس.
{وَتُخْفِى فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ} عطف على {تَقُولَ} وجوزت الحالية بتقدير وأنت تخفى أو بدونه كما هو ظاهر كلام الزمخشري في مواضع من كشافه، والمراد بالموصول على ما أخرج الحكيم الترمذي وغيره عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما ما أوحى الله تعالى به إليه أن زينب سيطلقها زيد ويتزوجها بعد عليه الصلاة والسلام وإلى هذا ذهب أهل التحقيق من المفسرين كالزهري. وبكر بن العلاء. والقشيري. والقاضي أبي بكر بن العربي. وغيرهم {وَتَخْشَى الناس} تخاف من اعتراضهم وقيل: أي تستحي من قولهم: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم تزوج زوجة ابنه، والمراد بالناس الجنس والمنافقون وهذا عطف على ما تقدم أو حال.
وقوله: {والله أَحَقُّ أَن} في موضع الحال لا غير، والمعنى والله تعالى وحده أحق أن تخشاه في كل أمر فتفعل ما أباحه سبحانه لك واذن لك فيه، والعتاب عند من سمعت على قوله عليه الصلاة والسلام ذلك مع {أَوْ أَمْسِكْ} مع علمه بأنه سيطلقها ويتزوجها هو صلى الله عليه وسلم بعده وهو عتاب على ترك الأولى.
وكان الأولى في مثل ذلك أن يصمت عليه الصلاة والسلام أو يفوض الأمر إلى رأي زيد رضي الله تعالى عنه.
وأخرج جماعة عن قتادة أنه صلى الله عليه وسلم كان يخفى إرادة طلاقها ويخشى قالة الناس إن أمره بطلاقها وأنه عليه الصلاة والسلام قال له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله} وهو يحب طلاقها، والعتاب عليه على ظهار ما ينافي الاضمار، وقد رد ذلك القاضي عياض في الشفاء وقال: لا تسترب في تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الظاهر وأنه يأمر زيدًا بإمساكها وهو يحب تطليقه إياها كما ذكره جماعة من المفسرين إلى آخر ما قال.
وذكر بعضهم أن إرادته صلى الله عليه وسلم طلاقها وحبه إياه كان مجرد خطوره بباله الشريف بعد العلم بأنه يريد مفارقتها، وليس هناك حسد منه عليه الصلاة والسلام وحاشاه له عليها فلا محذور، والاسم ما ذكرناه عن زيد العابدين رضي الله تعالى عنه. والجمهور، وحاصل العتاب لم قلت أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك وهو مطابق للتلاوة لأن الله تعالى أعلم أنه مبدى ما أخفاه عليه الصلاة والسلام ولم يظهر غير تزويجها منه فقال سبحانه: {زوجناكها} فلو كان المضمر محبتها وإرادة طلاقها ونحو ذلك لأظهره جل وعلا، وللقصاص في هذه القصة كلام لا ينبغي أن يجعل في حيز القبول.
منه ما أخرجه ابن سعد. والحاكم عن محمد بن يحيى بن حبان أنه صلى الله عليه وسلم جاء إلى بيت زيد فلم يجده وعرضت زينب عليه دخول البيت فأبى أن يدخل وانصرف راجعًا يتكلم بكلام لم تفهم منه سوى سبحان الله العظيم سبحان مصرف القلوب فجاء زيد فأخبرته بما كان فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: بلغنى يا رسول الله إنك جئت منزلي فهلا دخلت يا رسول الله لعل زينب أعجبتك فأفارقها فقال عليه الصلاة والسلام: أمسك عليك زوجك واتق الله فما استطاع زيد إليها سبيلًا بعد ففارقها؛ وفي تفسير علي بن إبراهيم أنه صلى الله عليه وسلم أتى بيت زيد فرأى زينب جالسة وسط حجرتها تسحق طيبًا بفهر لها فلما نظر إليها قال: سبحان خالق النور تبارك الله أحسن الخالقين فرجع فجاء زيد فأخبرته الخبر فقال لها: لعلك وقعت في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل لك أن أطلقك حتى يتزوجك رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالت: أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: أريد أن أطلق زينب فأجابه بما قص الله تعالى إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع، وفي شرح المواقف أن هذه القصة مما يجب صيانة النبي صلى الله عليه وسلم عن مثله فإن صحت فميل القلب غير مقدور مع ما فيه من الابتلاء لهما، والظاهر أن الله تعالى لما أراد نسخ تحريم زوجة المتبني أوحى إليه عليه الصلاة والسلام أن يتزوج زينب إذا طلقها زيد فلم يبادر له صلى الله عليه وسلم مخافة طعن الأعداء فعوتب عليه، وهو توجيه وجيه قاله الخفاجي عليه الرحمة ثم قال: إن القصة شبيهة بقصة داود عليه السلام لاسيما وقد كان النزول عن الزوجة في صدر الهجرة جاريًا بينهم من غير حرج فيه انتهى، وأبعد بعضهم فزعم أن {وَتُخْفِى} إلخ خطاب كسابقه من الله عز وجل أو من أن النبي صلى الله عليه وسلم لزيد فإنه أخفى الميل إليها وأظهر الرغبة عنها لما وقع في قلبه أن النبي صلى الله عليه وسلم يود أن تكون من نسائه، هذا وفي قوله تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} وصول الفعل الرافع الضمير المتصل إلى الضمير المجرور وهما لشخص واحد فهو كقوله:
هون عليك ودع عنك نهبًا صحيحًا في حجراته

وذكروا في مثل هذا التركيب أن على وعن اسمان ولا يجوز أن يكون حرفين لامتناع فكرفيك وأعين بك بل هذا مما تكون فيه النفس أي فكر في نفسك وأعين بنفسك، والحق عندي جواز ذلك التركيب مع حرفية علي وعن {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَرًا} أي طلقها كما روى عن قتادة وهو كناية عن ذلك مثل لا حاجة لي فيك، ومعنى الوطر الحاجة وقيدها الراغب بالمهمة، وقال أبو عبيدة: هو كالأدب وأنشد للربيع بن ضبع:
ودعنا قبل أن نودعه ** لما قضى من شبابنا وطرًا

ويفسر الأدب بالحاجة الشديدة المقتضية للاحتيال في دفعها ويستعمل تارة في الحاجة المفردة وأخرى في الاحتيال وإن لم تكن حاجة، وقال المبرد: هو الشهوة والمحبة يقال: ما قضيت من لقائك وطرًا أي ما استمتعت منك حتى تنتهي نفسي وأنشد:
وكيف ثوائي بالمدينة بعدما ** قضى وطرًا منها جميل بن معمر

وعن ابن عباس تفسير الوطر هنا بالجماع، والمراد لم يبق له بها حاجة الجماع وطلقها، وفي البحر نقلًا عن بعضهم أنه رضي الله تعالى عنه أنه لم يتمكن من الاستمتاع بها، وروى أبو عصمة نوح بن أبي مريم بإسناد رفعه إليها أنها قالت: ما كنت أمتنع منه غير أن الله عز وجل منعني منه، وروى أنه كان يتورم ذلك منه حين يريد أن يقربها فيمتنع.
قيل: ولا يخفى أنه على هذا يحسن جدًا جعل قضاء الوطر كناية عن الطلاق فتأمل، وفي الكلام تقدير أي فلما قضى زيد منها وطرًا وانقضت عدتها، وقيل: إن قضاء الوطر يشعر بانقضاء العدة لأن القضاء الفراغ من الشيء على التمام فكأنه قيل: فلما قضى زيد حاجته من نكاحها فطلقا وانقضت عدتها فلم يكن في قلبه ميل إليها ولا وحشة من فراقها {زوجناكها} أي جعلناها زوجة لك بلا واسطة عقد إصالة أو وكالة، فقد صح من حديث البخاري.
والترمذي أنها رضي الله تعالى عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات، وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: كانت تقول للنبي عليه الصلاة والسلام إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن إن جدي وجدك واحد وإني أنكحك الله إياي من السماء وإن السفير لجبريل عليه السلام، ولعلها أرادت سفارته عليه السلام بين الله تعالى وبين رسوله صلى الله عليه وسلم وإلا فالسفير بينه عليه الصلاة والسلام وبينها كان زيدًا.
أخرج أحمد. ومسلم. والنسائي. وغيرهم عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: اذهب فاذكرها علي فانطلق قال: فلما رأيتها عظمت في صدري فقلت: يا زينب ابشري أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك قالت: ما أنا بصانعة شيئًا حتى أؤامر ربي فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليها بغير إذن.
ومن حديث أخرجه الطبراني. والبيهقي في سننه وابن عساكر من طريق ابن زيد الأسدي عن مذكور مولى زينب قالت طلقني زيد فبت طلاقي فلما انقضت عدتي لم أشعر إلا والنبي عليه الصلاة والسلام قد دخل علي وأنا مكشوفة الشعر فقلت: هذا من السماء دخلت يا رسول الله بلا خطبة ولا شهادة فقال: الله تعالى المزوج وجبريل الشاهد، ولا يخفى أن هذا بظاهره يخالف ما تقدم من الحديث والمعول على ذاك، وقيل: المراد بزوجناكها أمرناك بتزوجها.
وقرأ علي. وابناه ريحانتا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن. والحسين. وابنه محمد بن الحنفية. وجعفر الصادق رضي الله تعالى عنهم أجمعين {زوجتكها} بتاء الضمير للمتكلم وحده {زوجناكها لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ} أي ضيق وقيل إثم، وفسره بهما بعضهم كالطبرسي بناء على جواز استعمال المشترك في معنيه مطلقًا كما ذهب إليه الشافعية أو في النفي كما ذهب إليه العلامة ابن الهمام من الحنفية {فِى أَزْوَاجِ} أي في حق تزوج أزواج {أَدْعِيَائِهِمْ} الذين تبنوهم {إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُمْ *وَطَرًا} أي إذا طلقهن الأدعياء وانقضت عدتهن فإن لهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، واستدل بهذا على أن ما ثبت له صلى الله عليه وسلم من الأحكام ثابت لأمته إلا ما علم أنه من خصوصياته عليه الصلاة والسلام بدليل، وتمام الكلام في المسألة مذكور في الأصول، والمراد بالحكم هاهنا على ما سمعت أولًا مطلق تزوج زوجات الأدعياء وهو على ما قيل ظاهر {وَكَانَ أَمْرُ الله} أي ما يريد تكوينه من الأمور أو مأموره الحاصل بكن {مَفْعُولًا} مكونًا لا محالة، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله من تزويج زينب رضي الله تعالى عنها.